فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة؛ واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة.
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن- بشرط الإيمان ذاك وحدّه- حين يبلغ إلى أذنيه خبر، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره. لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه؛ أو بين من لا شأن لهم به. لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر- حتى بعد ثبوته- أو عدم إذاعته.
وهكذا كان القرآن يربي.. فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة؛ ويعلم نظام الجندية في آية واحدة.. بل بعض آية.. فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف، فيحمله ويجري متنقلًا، مذيعًا له، من غير تثبت، ومن غير تمحيص، ومن غير رجعة إلى القيادة.. ووسطها يعلم ذلك التعليم.. وآخرها يربط القلوب بالله في هذا، ويذكرها بفضله، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد؛ الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته:
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا}.
آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها؛ وتتناول القضية من أطرافها؛ وتتعمق السريرة والضمير؛ وهي تضع التوجيه والتعليم!!! ذلك أنه من عند الله.. {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}.
وحين يصل السياق إلى هذا الحد من تقويم عيوب الصف؛ التي تؤثر في موقفه في الجهاد وفي الحياة- ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب- عندئذ ينتهي إلى قمة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس. قمة التكليف الشخصي، الذي لا يقعد الفرد عنه تبطئة ولا تخذيل، ولا خلل في الصف، ولا وعورة في الطريق. حيث يوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقاتل- ولو كان وحيدًا- فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته يحرض المؤمنين على القتال.. وكذلك يوحي إلى النفوس بالطمأنينة ورجاء النصر: فالله هو الذي يتولى المعركة. والله أشد بأسًا وأشد تنكيلًا: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. والله أشد بأسًا وأشد تنكيلًا}.
ومن خلال هذه الآية- بالإضافة إلى ما قبلها- تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك. كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين:
«أ» يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم؛ وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه؛ حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة، هي تكليف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في سبيل الله- ولو كان وحده- ليس عليه إلا نفسه؛ مع تحريض المؤمنين. غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم! ولو أن عدم استجابتهم- جملة- أمر لا يكون. ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو؛ واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة. فوق ما يحمله النص- طبعًا- من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي. وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه.
«ب» كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرض لقتال المشركين يومذاك.. حتى ليكون أقصى ما يعلق الله به رجاء المؤمنين: أن يتولى هو سبحانه كف بأس الذين كفروا؛ فيكون المسلمون ستارًا لقدرته في كف بأسهم عن المسلمين.. مع إبراز قوة الله سبحانه وأنه أشد بأسًا وأشد تنكيلًا.. وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوة بأس الذين كفروا يومذاك؛ والمخاوف المبثوثة في الصف المسلم.. وربما كان هذا بين أحد والخندق. فهذه أحرج الأوقات التي مرت بها الجماعة المسلمة في المدينة؛ بين المنافقين، وكيد اليهود، وتحفز المشركين! وعدم اكتمال التصور الإسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين!
«ج» كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشرية؛ وهي تدفع إلى التكاليف التي تشق عليها، إلى شدة الارتباط بالله؛ وشدة الطمأنينة إليه؛ وشدة الاستعانة به؛ وشدة الثقة بقدرته وقوته.. فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي حين يبلغ الخطر قمته. وهذه كلها حقائق يستخدمها المنهج الرباني؛ والله هو الذي خلق هذه النفوس. وهو الذي يعلم كيف تربى وكيف تُقّوى وكيف تستجاش وكيف تستجيب.
وبمناسبة تحريض الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به في آخر الدرس، وذكر المبطئين المثبطين في أوله، يقرر قاعدة عامة في الشفاعة- وهي تشمل التوجيه والنصح والتعاون: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتًا}.
فالذي يشجع ويحرض ويعاون على القتال في سبيل الله، يكون له نصيب من أجر هذه الدعوة وآثارها. والذي يبطئ ويثبط تكون له تبعة فيها وفي آثارها.
وكلمة {كفل} توحي بأنه متكفل بجرائرها.
والمبدأ عام في كل شفاعة خير، أو شفاعة سوء. وقد ذكر المبدأ العام بمناسبة الملابسة الخاصة، على طريقة المنهج القرآني، في إعطاء القاعدة الكلية من خلال الحادثة الجزئية، وربط الواقعة المفردة بالمبدأ العام كذلك. وربط الأمر كله بالله، الذي يرزق بكل شيء. أو الذي يمنح القدرة على كل شيء. وهو ما يفسر كلمة مقيت في قوله تعالى في التعقيب: {وكان الله على كل شيء مقيتًا}.
ثم استطرد السياق بعد ذكر الشفاعة إلى الأمر برد التحية بخير منها أو بمثلها. والتحية في المجتمع علاقة من العلاقات التي تدور بها عجلة الحياة في يسر، إذا اتبع الأدب الواجب فيها.. والمناسبة قريبة بينها- في جو المجتمع- وبين الشفاعة التي سبق التوجيه فيها: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبًا}.
وقد جاء الإسلام بتحيته الخاصة، التي تميز المجتمع المسلم؛ وتجعل كل سمة فيه- حتى السمات اليومية العادية- متفردة متميزة؛ لا تندغم ولا تضيع في سمات المجتمعات الأخرى ومعالمها.
جعل الإسلام تحيته: السلام عليكم أو السلام عليكم ورحمة الله أو السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. والرد عليها بأحسن منها- بالزيادة على كل منها ما عدا الثالثة فلم تبق زيادة لمستزيد- فالرد على الأولى (وعليكم السلام ورحمة الله) والرد على الثانية (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته). والرد على الثالثة (وعليكم..) إذ أنها استوفت كل الزيادات، فترد بمثلها... وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقف أمام اللمسات الكامنة في آية التحية هذه:
إنها- أولًا- تلك السمة المتفردة، التي يحرص المنهج الإسلامي على أن يطبع بها المجتمع المسلم بحيث تكون له ملامحه الخاصة، وتقاليده الخاصة- كما أن له شرائعه الخاصة ونظامه الخاص- وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الخاصية بالتفصيل عند الكلام عن تحويل القبلة، وتميز الجماعة المسلمة بقبلتها، كتميزها بعقيدتها. وذلك في سورة البقرة من قبل في الظلال.
وهي- ثانيًا- المحاولة الدائمة لتوثيق علاقات المودة والقربى بين أفراد الجماعة المسلمة.. وإفشاء السلام؛ والرد على التحية بأحسن منها، من خير الوسائل لإنشاء هذه العلاقات وتوثيقها. «وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف». هذا في إفشاء السلام بين الجماعة المسلمة ابتداء. وهو سنة. أما الرد عليها فهو فريضة بهذه الآية.. والعناية بهذا الأمر تبدو قيمتها عند الملاحظة الواقعية لآثار هذا التقليد في إصفاء القلوب، وتعارف غير المتعارفين؛ وتوثيق الصلة بين المتصلين.. وهي ظاهرة يدركها كل من يلاحظ آثار مثل هذا التقليد في المجتمعات، ويتدبر نتائجها العجيبة!
وهي- ثالثًا- نسمة رخية في وسط آيات القتال قبلها وبعدها.. لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية.. السلام.. فالإسلام دين السلام. وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض، بمعناه الواسع الشامل. السلام الناشئ من استقامة الفطرة على منهج الله. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

سؤال لقائل أن يقول: لم لم يقل: ليجمعنكم في يوم القيامة؟
والجواب من وجهين:
الأول: المراد ليجمعنكم في الموت أو القبور إلى يوم القيامة.
الثاني: التقدير: ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه. اهـ.
سؤال: فإن قيل: الصدق لا يتفاوت كالعلم إذ لا يقال: هذا الصدق أصدق من هذا الصدق كما لا يقال: هذا العلم أعلم من هذا المعلم، أجيب: بأنّ الصدق صفة للقائل لا صفة للحديث أي: لا أحد غير الله أصدق منه؛ لأنّ غيره يتطرّق إلى خبره الكذب، وذلك مستحيل في حقه تعالى، والأنبياء مخبرون عن الله تعالى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {ومن أصدق من الله حديثا} وبعد هذا {ومن أصدق من الله قيلا}، للسائل أن يسأل عن اختلاف التعبيرين مع أن المتقدم في كل من الآيتين إخبار أخراوى.
ففى الأولى {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} وفى الثانية وما وعد الله به المؤمنين في قوله: {سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار} ثم جئ بالتمييز مختلفا فقيل في الأولى {ومن أصدق من الله حديثا} وفى الثانية {ومن أصدق من الله قيلا} فخولف في العبارة مع وحدة المعنى فيسأل عن ذلك وهل كان يجوز العكس؟
والجواب أن التعبير الثانى مبنى على ما يجب ربطه به من قوله: {وعد الله حقا} وقيل: {ومن أصدق من الله قيلا} وأنيب مناب وعدا فكأن قد قيل: ومن أصدق من الله وعدا وهو ما وعدهم به تعالى من النعيم وعظيم الإحسان فجئ بلفظ يوازن المصدر عن قبله وهما وعدا وحقا ويشابههما في الخفة فسكون عين الكلمة وعدد حروفها كالمصدرين قبلها وكأنه إنما أريد تكرار المصدر بلفظه فاستثقل التكرار للتقارب وعادة العرب في ذلك فعدل إلى ما يجاريه ويحرز المعنى ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خفة ووزنا إحرازا للتناسب والتلاؤم.
ولما لم يتقدم في الآية الأولى ما يستلزم هذا وإن قوله تعالى: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} إخبار وحديث عن البعث بعد الموت وجمع الخلق لحسابهم ومجازاتهم على الخير والشر فهو إخبار وإنباء، ومثله ما ورد في قوله تعالى إخبارا عن قول منكري البعث: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق}الآية فالإنباء هنا هو ذلك الخبر الصدق منه تعالى بقوله: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} الآية فقد وضح ورود كل واحدة من الآيتين على ما يناسب ويلائم والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)}
تعليم لهم حُسْنَ العِشْرة وآداب الصحبة. وإن من حمَّلَكَ فَضلًا صار ذلك- في ذمتك- له قرضًا، فإمَّا زِدْتَ على فِعله وإلاَّ فلا تنقص عن مثله.
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ}
هذا الخطاب يتضمن نفيًا وإثباتًا؛ فالنفي يعود إلى الأغيار ويستحيل لغيره ما نفاه، والإثبات له بالإلهية ويستحيل له النفي فيما أثبته. اهـ.

.من فوائد السعدي في الآية:

قال رحمه الله:
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}.